بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله أجمعين.
اعلم أن واحدا من الطلبة المتقدمين ، لازم خدمة الشيخ الإمام زين الدين حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رحمه الله ، واشتغل بالتحصيل وقراءة العلم عليه ، حتى جمع دقائق العلوم ، واستمكل فضائل النفس ، ثم إنه تفكر يوما في حال نفسه ، وخطر على باله فقال: إني قرأت أنواعا من العلوم ، وصرفت في ريعان عمري على تعلمها وجمعها ، والآن ينبغي أن أعلم أي نوعها ينفعني غدا ويؤنسني في الآخرة؟ وأيها لا ينفع حتى أتركه؟.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)[1].
فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة الإسلام محمد الغزالي رحمه الله تعالى استفتاء ، وسأل عنه مسائل ، والتمس منه نصيحة ودعاء.
قال: وإن كانت مصنفات الشيخ كالإحياء وغيره يشتمل على جواب مسائلي ، لكن مقصودي أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي وأعمل بها مدة عمري إن شاء الله تعالى.
فكتب الشيخ هذه الرسالة إليه في جوابه..
بســم الله الرحمـن الرحيـم
اعلم أيها الولد المحب العزيز ـ أطال الله تعالى بقاءك بطاعته ، وسلك بك سبيل أحبّائه ـ أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة عليه الصلاة والسلام ، إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي؟ وإن لم يبلغك فقل لي: ماذا حصّلت في هذه السنين الماضية!!!
أيهـا الولــد:
من جملة ما نصح به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته صلى الله عليه وسلم قوله: (علامة إعراض الله تعالى عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه ، وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته ، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)[2].
وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم.
أيهـا الولــد:
النصيحة سهلة ، والمشكل قبولها ، لأنها في مذاق متبعي الهوى مرّة ، إذ المناهي محبوبة في قلوبهم على الخصوص لمن كان طالب علم مشتغلا في فضل النفس ومناقب الدنيا ، فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته وخلاصه فيه ، وأنه مستغن عن العمل ، وهذا اعتقاد الفلاسفة[3].
سبحان الله العظيم!! لا يعلم هذا القدر أنه حين حصّل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القياة عالملا ينفعه الله بعلمه)[4].
وروي أن الجنيد رئي في المنام بعد موته ، فقيل له: ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال: طاحت العبارات ، وفنيت الإشارات ، وما نفعنا إلا ركعات ركعناها في جوف الليل.
أيهـا الولــد:
لا تكن من الأعمال مفلسا ، ولا من الأحوال خاليا ، وتيقّن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد.
مثاله: لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى ، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب ، فحمل عليه أسد عظيم مهيب ، فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟!
ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب ، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها ، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل.
ومثاله أيضا: لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجين والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالهما[5].
كرمى دو هزار بار بييماي ..... تامى نخوري نباشدت شيدابي[6]
أيهـا الولــد:
ولو قرأت العلم مائة سنة ، وجمعت ألف كتاب ، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، وقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} ، وقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون} ، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} ، وقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا}.
وما تقول في الأحاديث؟ (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا)[7].
والإيمان: قول باللسان ، وتصديق بالجنان ، وعمل بالأركان.
ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى ، وإن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته ، لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
ولو قيل أيضا: يبلغ بمجرد الإيمان.
قلنا: نعم لكن متى يبلغ؟ وكم من عقبة كئود تستقبله إلى أن يصل؟.
وأول تلك العقبات: عقبة الإيمان: أنه هل يسلم من السلب أم لا., وإذا وصل يكون خائبا مفلسا.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بقدر أعمالكم).
أيهـا الولــد:
ما لم تعمل لم تجد الأجر.
حُكي أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين عاما ، فأراد الله تعالى أن يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكا يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول الجنة ، فلما بلغه قال العابد: (نحن خلقنا للعبادة ، فينبغي لنا أن نعبده). فلما رجع الملك قال الله تعالى: (ماذا قال عبدي؟) قال: (إلهي ، أنت أعلم بما قال) ، فقال الله تعالى: (إذا هو لم يعرض عن عبادتنا ، فنحن ـ مع الكرم ـ لا نعرض عنه ، أشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا)[8].
وقال علي رضي الله عنه: (من ظنّ أنه بدون الجهد يصل فهو متمّن ، ومن ظنّ أنه ببذل الجهد يصل فهو مستغن).
وقال الحسن رحمه الله تعالى: (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). وقال: (علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك الهمل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني)[9].
أيهـا الولــد:
كم من ليال أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب ، وحرّمت على نفسك النوم؛ لا أعلم ما كان الباعث فيه؟
إن كانت نيتك عرض الدنيا ، وجذب حطامها وتحصيل مناصبها ، والمباهاة على الأقران والأمثال ، فويل لك ثم ويل لك.
وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وتهذيب أخلاقك ، وكسر النفس الأمّارة بالسوء ، فطوبى لك ثم طوبى لك ، ولقد صدق من قال شعرا:
سهر العيون لغير وجهك ضائع .... وبكاؤهن لغير فقدك باطل
أيهـا الولــد:
عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
عن سهل بن محمد رضي الله عنهما قال: جاء جبريل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ماشئت ، فإنك مجزي به ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل ، وعزه استغناؤه عن الناس)[10].
أيهـا الولــد:
أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام والخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف: غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال.
إني رأيت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: (من ساعة ما يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالا ، أوّله يقول:" عبدي.. طهّرت منظر الخلق سنين وما طهّرت منظري ساعة" ، وكل يوم ينظر في قلبك يقول الله تعالى:" ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري"!!! أما أنت أصمّ لا تسمع؟!!)
أيهـا الولــد:
العلم بلا عمل جنون ، والعمل بغير علم لا يكون.
واعلم أن علما لا يبعدك اليوم عن المعاصي ، ولا يحملك على الطاعة لن يبعدك غدا عن نار جهنم ، وإذا لم تعمل اليوم ، ولم تدارك الأيام الماضية تقول غدا يوم القيامة: {فارجعنا نعمل صالحا} ، فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء. قال تعالى:{ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون}.
أيهـا الولــد:
اجعل الهمة في الروح ، والهزيمة في النفس ، والموت في البدن ، لأن منزلك القبر ، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم ، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (هذه الأجساد قفص الطيور ، وإصطبل الدواب) .. فتفكّر في نفسك من أيهما أنت؟
إن كنت من الطيور العلوية ، فحين تسمع طنين طبل {إرجعي إلى ربك} تطير صاعدا إلى أن تقعد في أعالي بروح الجنان ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)[11].
والعياذ بالله إن كنت من الدواب كما قال تعالى {أولئك كالأنعام بل هم أضل} فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار.
وروي أن الحسن البصري رحمه الله تعالى أعطي شربة ماء بارد ، فلما اخذ القدح غشي عليه وسقط من يده ، فلما أفاق قيل له: مالك يا أبا سعيد؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة:{أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}.
أيهـا الولــد:
لو كان العلم المجرّد كافيا لك ، ولا تحتاج إلى عمل سواه ، لكان نداء الله تعالى: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟)[12].
وروي أن جماعة من الصحابة رضي الله عليهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم الرجل هو لو كان يصلي بالليل)[13].
وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه: (يا فلان.. لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبه فقيرا يوم القيامة)[14].
أيهـا الولــد:
{ومن الليل فتهجّد به} أمر؛ {وبالأسحار هم يستغفرون} شكر؛ {والمستغفرين بالأسحار} ذكر.
قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار)[15].
قال سفيان الثوري رحمه الله: (إن لله تعالى ريحا تهب بالأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار).
وقال أيضا: (إذا كان أول الليل ينادي مناد من تحت العرش: ألا ليقم العابدون ، فيقومون ويصلون ما شاء الله؛ ثم ينادي مناد في شطر الله: ألا ليقم القانتون ، فيقومون ويصلون إلى السحر؛ فإذا كان السحر ينادي مناد: ألا ليقم المستغفرون ، فيقومون ويستغفرون؛ فإذا طلع الفجر ينادي مناد: ألا ليقم الغافلون ، فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم).
أيهـا الولــد:
روي في لعض وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: (يا بني.. لا يكوننّ الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم).
ولقد أحسن من قال شعرا:
لقد هتفت في جنح الليل حمامة .... على فنن وهنا وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا .... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
وأزعم أني هائم ذو صبابة ..... لربي فلا أبكي وتبكي البهائم؟!
أيهـا الولــد:
خلاصة العلم: أن تعلم أن الطاعة والعبادة ما هي؟
اعلم أن الطاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالقول والفعل ، يعني: كل ما تقول وتفعل ، وتترك قوله وفعله يكون بإقتداء الشرع ، كما لو صمت في يوم العيد وأيام التشريق تكون عاصيا ، أو صليت في ثوب مغصوب ـ وإن كانت صورة عبادة ـ تأثم.
أيهـا الولــد:
ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع؛ إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة ، وينبغي لك ألا تغترّ بشطح الصوفية[16] وطاماتهم ؛ لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة ، لا بالطامات والترهات[17].
واعلم أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة ، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيى قلبك بأنوار المعرفة.
واعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول ، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإلا فعلمها من المستحيلات؛ لأنها ذوقية ، وكل ما يكون ذوقيا ، لا يستقيم وصفه بالقول ، كحلاوة الحلو ومرارة المر ، لا تعرف إلا بالذوق ، كما حكي أن عنّينا[18] كتب إلى صاحب له: أن عرّفني لذة المجامعة كيف تكون؟.
فكتب له في جوابه: يا فلان.. إني كنت حسبتك عنّينا فقط ، الآن عرفت أنك عنّين وأحمق؛ لأن هذه اللذة ذوقية ، إن تصل إليها ، وإلا لا يستقيم وصفها بالقول والكتابة.
أيهـا الولــد:
بعض مسائلك من هذا القبيل ، وأما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في "إحياء العلوم" وغيره ، ونذكر ههنا نبذا منه ونشير إليه فنقول: قد وجب على السالك أربعة أمور:
أول الأمر: اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.
والثاني: توبة نصوح لا يرجع بعده إلى الذلة.
والثالث: استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حق.
والرابع: تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى.
ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة.
حكي أن الشبلي رحمه الله خدم أربعمائة أستاذ ، وقال قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها حديثا واحدا ، وعملت به ، وخليت ما سواه؛ لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه ، وكان علم الأولين ، والآخرين كله مندرجا فيه فاكتفيت به ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: (اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنار بقدر صبرك عليها)[19].
أيهـا الولــد:
إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير.
وتأمل في حكاية أخرى ، وهي: أن حاتم الأصمّ كان من أصحاب شقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما ، فسأله يوما قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصّلت؟
قال: حصّلت ثماني فوائد من العلم ، وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها.
فقال شفيق: ما هي؟
قال حاتم:
الفائدة الأولى: إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه ، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر ، ثم يرجع كله ، ويتركه فريدا وحيدا ، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد.
فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ، ويؤنسه فيه ، فما وجدته غير الأعمال الصالحة ، فأخذتها محبوبة لي؛ لتكون لي سراجا في قبري ، وتؤنسني فيه ، ولا تتركني فريدا.
الفائدة الثانية: أني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم ، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم ، فتأملت قوله تعالى:{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى}. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمّرت بمجاهدتها ، وما متعتها بهواها ، حتى ارتاضت بطاعة الله تعالى وانقادت.
الفائدة الثالثة: أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جميع حطام الدنيا ، ثم يمسكه قابضا يده عليه فتأملت في قوله تعلى:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله تعالى.
الفائدة الرابعة: أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فأعتز بهم.
وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد ، فافتخروا بها.
وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم.
واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه ، وتبذيره ، فتأملت في قوله تعالى:{إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} ، فاخترت التقوى ، واعتقدت أن القرآن حق صادق ، وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.
الفائدة الخامسة: إني رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ، ويغتاب بعضهم بعضا ، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ، فتأملت في قوله تعالى:{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل ، فما حسدت أحدا ورضيت بقسمة الله تعالى.
الفائدة السادسة: أني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضا لغرض وسبب ، فتأملت في قوله تعالى:{إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان.
الفائدة السابعة: أني رأيت كل أحد يسعى بجد ، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش ، بحيث يقع به في سبهة وحرام وبذل نفسه وينقص قدره ، فتأملت في قوله تعالى:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه ، فاشتغلت بعبادته ، وقطعت طمعي عمّن سواه.
الفائدة الثامنة: أني رأيت كل واحد معتمدا على شيء مخلوق ، بعضهم على الدينار والدرهم ، وبعضهم على المال والملك ، وبعضهم على الحرفة والصناعة ، وبعضهم على مخلوق
مثله ، فتأملت في قوله تعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا} فتوكلت على الله تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل.
فقال شفيق: وفقك الله تعالى إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثماني ، فمن عمل بها كان عاملا بهذه الكتب الأربعة.
أيهـا الولــد:
قد علمت من هاتين الحكايتين أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم ، والآن أبين لك ما يجب على سالك سبيل الحق:
فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مرب ، ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته ، ويجعل مكانها خلقا حسنا.
ومعنى التربية يشبه الفلاح الي يقلع الشوك. ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع لحيسن نباته. ويكمل ريعه ، ولا بد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى لأن الله أرسل للعباد رسولا للإرشاد إلى سبيله فإذا ارتحل صلى الله عليه وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه ، حتى يرشدوا إلى الله تعالى.
وشرط االشيخ الذي يصلح أن يكون نائبا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أن يكون عالما إلا أن كل عالم لا يصلح للخلافة.
وإني أبيّن لك بعض علاماته على سبيل الإجمال؛ حتى لا يدّعي كل أحد أنه مرشد فنقول: من يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه ، وكان قد تابع شيخا بصيرا تتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وكان محسنا رياضة نفسه من قلة الأكل والقول والنوم وكثرة الصلوات والصدقة والصوم ، وكان بمتابعة الشيخ البصير جاعلا محاسن الأخلاق له سيرة: كالصبر والصلاة والشكر والتوكل واليقين والسخاء والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع والعلم والصدق والحياء والوفاء والوقار والسكون والتأني وأمثالها ، فهو إذا نور من أنوار النبي صلى الله عليه وسلم يصلح للإقتداء به ، ولكن وجود مثله نادر أعز من الكبريت الأحمر.
ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا كما ذكرنا ، وقبله الشيخ ، ينبغي أن يحترمه ظاهرا وباطنا:
أما احشوكولاطة الظاهر فهو أن لا يجادله ، ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه ، ولا يلقي بين يديه سجّادته إلا وقت أداء الصلاة ، فإذا فرغ من الصلاة يرفعها ، ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته ، ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته
وأما احشوكولاطة الباطن: فهو أنّ كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلا ولا قولا؛ لئلا يتّسم بالنفاق ، وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق ياطنه ظاهره.
ويحترز عن مجالسة صاحب السوء؛ ليقصر ولاية شياطين الإنس والجن من صحن قلبه ، فيصفي عن لوث الشيطنة ، وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى.
ثم اعلم أن التصوف له خصلتان: الاستقامة ، والسكون عن الخلق ، فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو "صوفي".
والاستقامة أن يفدي حظ نفسه لنفسه.
وحسن الخلق مع الناس: ألا تحمل الناس على مراد نفسك ، بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع.
- ثم إنك سألتني عن العبودية وهي ثلاثة أشياء:
أحدها: محافظة أمر الشرع.
وثانيها: الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى.
وثالثها: ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى.
- وسألتني عن التوكل؟
وهو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد ، يعني تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك ، وما لم يكتب لك لن يصل إليك ، وإن ساعدك جميع العالم.
- وسألتني عن الإخلاص؟
وهو أن تكون أعمالك كلها لله تعالى ، ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ، ولا تبالي بمذمتهم.
واعلم أن الرياء يتولد من تعظيم الخلق.
وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة ، وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة لتخلص من مراياتهم. ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء.
أيهـا الولــد:
والباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي ، فاطلبه ثمّة: وكتابة بعضها حرام ، اعمل أنت بما تعلم ، لينكشف لك ما لم تعلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)[20].
أيهـا الولــد:
بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان ، قال تعالى:{ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم}
واقبل نصيحة الخضر عليه السلام حين قال:{فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}
ولا تستعجل حتى تبلغ أوانه يكشف لك وتره:{سأوريكم آياتي فلا تستعجلون}.
فلا تسألني قبل الوقت وتيقن أنك لا تصل إلا بالسير لقوله تعالى:{أولم يسيروا في الأرض فينظروا}.
أيهـا الولــد:
بالله إن تسر تر العجائب في كل منزل ، وابذل روحك ، فإن رأس هذا الأمر بذل الروح ، كما قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى لأحد من تلامذته: (إن قدرت على بذل الروح فتعال ، وإلا فلا تسشتغل بالترهات الصوفية).
أيهـا الولــد:
إني أنصحك بثمانية أشياء ، اقبلها مني لئلا يكون علمك خصمك يوم القيامة ، تعمل منها أربعة ، وتدع منها أربعة:
أما اللواتي تدع:
فأحدها: ألا تناظر أحدا في مسألة ما استطعت لأن فيها آفات كثيرة ، فإثمها أكبر من نفعها ، إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها.
نعم ، لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو أقوام ، وكانت إرادتك فيها أن تظهر الحق ولا يضيع ، جاز البحث ، لكن لتلك الإرادة علامتان:
إحداهما: ألا تفرّق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك.
والثانية: أن يكون البحث في الخلاء أحبّ إليك من أن يكون في الملأ.
واسمع أني أذكر ههنا فائدة ، واعلم أن السؤال عن المشكلات عرض مرض القلب إلى الطبيب ، والجواب له سعي لإصلاح مرضه.
واعلم أن الجاهليين: المرضى قلوبهم ، والعلماء: الأطباء.
والعالم الناقص لا يحسن المعالجة ، والعالم الكامل لا يعالج كل مريض ، بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح ، فإذا كانت العلة مزمنة أو عقيما لا تقبل العلاج ، فحذاقة الطبيب فيه أن يقول: هذا لا يقبل العلاج ، فلا تشغل فيه بمداواته لأن فيه تضييع العمر.
ثم اعلم أن مرض الجهل على أربعة أنواع : أحدها يقبل العلاج ، والباقي لا يقبل.
- أما الذي لا يقبل:
فأحدهما: من كان سؤاله واعتراضه عن حسد وبغض ، فكلما تجيبه بأحسن الجواب وأفصحه ، فلا يزيد له ذلك إلا بغضا عداوة وحسدا ، فالطريق ألا تشتغل بجوابه ، فقد قيل:
كل العداوة قد ترجى أزالتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد
فينبغي أن تعرض عنه ، وتتركه مع مرضه؛ قال الله تعالى:{فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}.
والحسود بكل ما يقول ويفعل يوقد النار في زرع علمه: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)[21].
والثاني: أن تكون علته من الحماقة ، وهو أيضا لا يقبل العلاج كما قال عيسى عليه السلام: إني ما عجزت عن إحياء الموتى ، وقد عجزت عن معالجة الأحمق.
وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمنا قليلا ويتعلم شيئا قليلا من علوم العقل والشرع ، فيسأل ، ويعترض من حماقته على العالم الكبير ، الذي أمضى عمره في العلوم: العقلي والشرعي ، وهذا الأحمق لا يعلم ، ويظن أن ما أشكل عليه هو أيضا مشكل للعالم الكبير ، فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة ، فينبغي ألا يشتغل بجوابه.
والثالث: أن يكون مسترشدا ، وكل ما لا يفهم من كلام الأكابر يحمل على قصور فهمه ، وكان سؤاله للاستفادة ، لكن لكونه بليدا لا يدرك الحقائق ، فلا ينبغي الاشتغال بجوابه أيضا ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقوله)[22].
وأما المرض الذي يقبل العلاج ، فهو أن يكون مسترشدا عاقلا فهما لا يكون مغلوب الحسد والغضب وحب الشهوة والجاه والمال. ويكون طالب طريق المستقيم ، ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد ، وتعنّت وامتحان ، وهذا يقبل العلاج ، فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته.
والثاني مما تدع: وهو أن تحذر وتحترز من أن تكون واعظا ومذكرا؛ لأن آفته كثيرة إلا أن تعمل بما تقول أولا ، ثم تعظ به الناس ، فتفكر فيما قيل لعيسى عليه السلام: (يا ابن مريم عظ نفسك ، فإن اتعظت فعظ الناس ، وإلا فاستح من ربك).
وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز عن خصلتين:
الأولى: عن التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والأبيات والأشعار؛ لأن الله تعالى يبغض المتكلفين ، والمتكلف المتجاوز عن الحد ، يدل على خراب الباطن وغفلة القلب.
ومعنى التذكير: أن يذكر العبد نار الآخرة ، وتقصير نفسه في خدمة الخالق ويتفكر في عمره الماضي الذي أفناه فيما لا يعنيه ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم سلامة الإيمان في الخاتمة ، وكيفية حاله في قبض ملك الموت ، وهل يقدر على جواب منكر ونكير؟
ويهتم بحاله في القيامة ومواقفها ، وهل يعبلا عن الصراط سالما أم يقع في الهاوية؟
ويستمر ذكر هذه الأشياء في قلبه ، فيزعجه عن قراره ، فغليان هذه النيران ، وتوجه هذه المصائب يسمّى تذكيرا ، وإعلام الخلق واطلاعهم على هذه الأشياء ، وتنبيههم على تقصيرهم وتفريطهم ، وتبصيرهم بعيوب أنفسهم لتمسّ حرارة هذه النيران أهل المجلس ، وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة ، ويتحسّروا على الأيام الخالية في غير طاعة لله تعالى.
هذه الجملة على هذا الطريق تسمى وعظا ، كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد ، وكان هو وأهله فيها فتقول: الحذر الحذر فروا من السيل!! وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكلف العبارات ، والنكت والإشارات؟ فلا يشتهي البتة؛ فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها.
الخصلة الثانية: ألا تكون همّتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ، ويشقوا الثياب ، ليقال: نعم المجلس هذا؛ لأن كله ميل للدنيا والرياء ، وهو يتولد من الغفلة ، بل ينبغي أن يكون عزمك وهمّتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الآخرة ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الحرص إلى الزهد ، ومن البخل إلى السخاء ، ومن الغرور إلى التقوى ، وتحبب إليهم الآخرة ، وتبغّض إليهم الدنيا ، وتعلمهم علم العبادة والزهد؛ لأن الغالب على طباعهم الزيغ عن نهج الشرع ، والسعي فيما لا يرضى الله تعالى به ، والاشتغال بالأخلاق الرّدية ، فألق في قلوبهم الرعب ، وروّعهم ، وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف؛ لعل صفات باطنهم تتغير ، ومعاملة ظاهرهم تتبدل ، ويظهروا الحرص والرغبة في الطاعة والرجوع عن المعصية ، وهذا طريق الوعظ والنصيحة ، وكل وعظ لا يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع ، بل قيل: إنه غول وشيطان ، يذهب بالخلق عن الطريق ويهلكهم ، فيجب عليهم أن يفروا منه؛ لأن ما يفسد هذا القائل من دينهم ، لا يستطيع بمثله الشيطان ، ومن كان له يد وقدرة يجب عليه أن ينزله عن منابر المسلمين ويمنعه عما باشر ، فإنه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والثالث مما تدع: أنه لا تخالط الأمراء والسلاطين ولا ترهم ، لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة ، ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم ، لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم ، ومن دعا لطول بقائهم فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه.
والرابع مما تدع: ألا تقبل شيئا من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال ، لأن الطمع منهم يفسد الدين ، لأنه يتولد من المداهنة ، ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ، وهذا كله فساد في الدين ، وأقلّ مضرّته أنك إذا قبلت أخياهم ، وانتفعت من دنياهم أحببتهم ، ومن أحبّ أحدا يحب طول عمره ، وبقاءه بالضرورة ، وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالى ، وإرادة خراب العالم ، فأي شيء يكون أضر من هذا على الدين والعاقبة.
وإياك وإياك أن تخدع باستهواء الشياطين أو قول بعض الناس لك: بأن الأفضل والأولى أن تأخذ منهم الدينار والدهم ، وتفرّقها بين الفقراء والمساكين؛ فإنهم ينفقون على الفسق والمعصية ، وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم؛ فإن اللعين قد قطع أعناق كثير من الناس بهذه الوسوسة وآفته كثيرة ، ذكرناها في إحياء العلوم فاطلبه منها.
وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها:
الأول: أن تجعل معاملتك مع الله تعالى ، بحيث لو عامل بها عبدك معك ترضى بها منه ، ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب ، والذي لا ترضى به لنفسك من عبدك المجازيّ فلا ترضى أيضا لله تعالى وهو سيدك الحقيقي.
والثاني: كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم؛ لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحبّ لسائر الناس ما يحبّ لنفسه.
والثالث: إذا قرأت العلم أو طالعته ، ينبغي أن يكون علمك علما يصلح قلبك ويزكي نفسك ، كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع ، فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم الفقه والخلاف والأصول والكلام وأمثالها؛ لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك ، بل تشتغل بمراقبة القلب ، ومعرفة صفات النفس ، والإعراض عن علائق الدنيا ، وتزكي نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته ، والاتصاف بالأوصاف الحسنة ، ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه.
أيهـا الولــد:
اسمع مني كلاما آخر ، وتفكر فيه حتى تجد فيه خلاصا: لو أنّك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يجيئك زائرا. أعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن ، والدّار والفرش وغيرها.
والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم ، والكلام الفرد يكفي الكيّس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم)[23].
وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الإحياء وغيره من مصنفاتي وهذا العلم فرض عين ، وغيره فرض كفاية إلا بمقدار ما يؤدي به إلى فرائض الله تعالى ، وهو يوفقك حتى تحصّله.
والرابع: ألا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية سنة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدّ ذلك لبعض حجراته ، وقال: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا)[24] ، ولم يكن يعدّ بعد ذلك لكل حجراته بل كان يعدّه لمن علم أن في قلبها ضعفا ، وأما من كانت صاحبة يقين فما كان يعدّ لها أكثر من قوت يوم ونصف.
أيهـا الولــد:
إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك ، فينبغي لك أن تعمل بها ولا تنساني فيه أن تذكرني في صالح دعائك.
وأما الدعاء الذي سألت مني فاطلبه من دعوات الصحاح ، واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك ، خصوصا في أعقاب صلواتك:
اللهم إني أسألك من النعمة تمامها ، ومن العصمة دوامها ، ومن الرحمة شمولها ، ومن العافية حصولها ، ومن العيش أرغده ، ومن العمر أسعده ومن الإحسان أتمه ، ومن الإنعام أعمّه ، ومن الفضل أعذبه ، ومن اللطف أقربه.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، اللهم اختم بالسعادة آجالنا ، وحقق بالزيادة آمالنا ، واقرن بالعافية غدوّنا وآصالنا ، واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ، واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ، ومنّ علينا بإصلاح عيوبنا ، واجعل التقوى زادنا ، وفي دينك اجتهادنا ، وعليك توكلنا واعتمادنا.
اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة ، وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة ، وخفف عنا ثقل الأوزار ، وارزقنا عيشة الأبرار ، واكفنا واصرف عنا شرّ الأشرار ، واتق رقابنا ، ورقاب آبائنا ، وأمّهاتنا ومشايخنا من النار ، برحمتك يا عزيز يا غفار ، يا كريم يا ستّار ، يا حليم يا جبّار يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا رحيم ، يا رحيم ، يا أرحم الراحمين ويا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين..
والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله أجمعين.
اعلم أن واحدا من الطلبة المتقدمين ، لازم خدمة الشيخ الإمام زين الدين حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رحمه الله ، واشتغل بالتحصيل وقراءة العلم عليه ، حتى جمع دقائق العلوم ، واستمكل فضائل النفس ، ثم إنه تفكر يوما في حال نفسه ، وخطر على باله فقال: إني قرأت أنواعا من العلوم ، وصرفت في ريعان عمري على تعلمها وجمعها ، والآن ينبغي أن أعلم أي نوعها ينفعني غدا ويؤنسني في الآخرة؟ وأيها لا ينفع حتى أتركه؟.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)[1].
فاستمرت له هذه الفكرة حتى كتب إلى حضرة الشيخ حجة الإسلام محمد الغزالي رحمه الله تعالى استفتاء ، وسأل عنه مسائل ، والتمس منه نصيحة ودعاء.
قال: وإن كانت مصنفات الشيخ كالإحياء وغيره يشتمل على جواب مسائلي ، لكن مقصودي أن يكتب الشيخ حاجتي في ورقات تكون معي مدة حياتي وأعمل بها مدة عمري إن شاء الله تعالى.
فكتب الشيخ هذه الرسالة إليه في جوابه..
بســم الله الرحمـن الرحيـم
اعلم أيها الولد المحب العزيز ـ أطال الله تعالى بقاءك بطاعته ، وسلك بك سبيل أحبّائه ـ أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة عليه الصلاة والسلام ، إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي؟ وإن لم يبلغك فقل لي: ماذا حصّلت في هذه السنين الماضية!!!
أيهـا الولــد:
من جملة ما نصح به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته صلى الله عليه وسلم قوله: (علامة إعراض الله تعالى عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه ، وإن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته ، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)[2].
وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم.
أيهـا الولــد:
النصيحة سهلة ، والمشكل قبولها ، لأنها في مذاق متبعي الهوى مرّة ، إذ المناهي محبوبة في قلوبهم على الخصوص لمن كان طالب علم مشتغلا في فضل النفس ومناقب الدنيا ، فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته وخلاصه فيه ، وأنه مستغن عن العمل ، وهذا اعتقاد الفلاسفة[3].
سبحان الله العظيم!! لا يعلم هذا القدر أنه حين حصّل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القياة عالملا ينفعه الله بعلمه)[4].
وروي أن الجنيد رئي في المنام بعد موته ، فقيل له: ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال: طاحت العبارات ، وفنيت الإشارات ، وما نفعنا إلا ركعات ركعناها في جوف الليل.
أيهـا الولــد:
لا تكن من الأعمال مفلسا ، ولا من الأحوال خاليا ، وتيقّن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد.
مثاله: لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى ، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب ، فحمل عليه أسد عظيم مهيب ، فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟!
ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب ، فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها ، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل.
ومثاله أيضا: لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجين والكشكاب فلا يحصل البرء إلا باستعمالهما[5].
كرمى دو هزار بار بييماي ..... تامى نخوري نباشدت شيدابي[6]
أيهـا الولــد:
ولو قرأت العلم مائة سنة ، وجمعت ألف كتاب ، لا تكون مستعدا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، وقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} ، وقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يكسبون} ، وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} ، وقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا}.
وما تقول في الأحاديث؟ (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا)[7].
والإيمان: قول باللسان ، وتصديق بالجنان ، وعمل بالأركان.
ودليل الأعمال أكثر من أن يحصى ، وإن كان العبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ، لكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته ، لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
ولو قيل أيضا: يبلغ بمجرد الإيمان.
قلنا: نعم لكن متى يبلغ؟ وكم من عقبة كئود تستقبله إلى أن يصل؟.
وأول تلك العقبات: عقبة الإيمان: أنه هل يسلم من السلب أم لا., وإذا وصل يكون خائبا مفلسا.
وقال الحسن البصري رحمه الله: (يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بقدر أعمالكم).
أيهـا الولــد:
ما لم تعمل لم تجد الأجر.
حُكي أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله تعالى سبعين عاما ، فأراد الله تعالى أن يجلوه على الملائكة فأرسل الله إليه ملكا يخبره أنه مع تلك العبادة لا يليق به دخول الجنة ، فلما بلغه قال العابد: (نحن خلقنا للعبادة ، فينبغي لنا أن نعبده). فلما رجع الملك قال الله تعالى: (ماذا قال عبدي؟) قال: (إلهي ، أنت أعلم بما قال) ، فقال الله تعالى: (إذا هو لم يعرض عن عبادتنا ، فنحن ـ مع الكرم ـ لا نعرض عنه ، أشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا)[8].
وقال علي رضي الله عنه: (من ظنّ أنه بدون الجهد يصل فهو متمّن ، ومن ظنّ أنه ببذل الجهد يصل فهو مستغن).
وقال الحسن رحمه الله تعالى: (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب). وقال: (علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك الهمل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني)[9].
أيهـا الولــد:
كم من ليال أحييتها بتكرار العلم ومطالعة الكتب ، وحرّمت على نفسك النوم؛ لا أعلم ما كان الباعث فيه؟
إن كانت نيتك عرض الدنيا ، وجذب حطامها وتحصيل مناصبها ، والمباهاة على الأقران والأمثال ، فويل لك ثم ويل لك.
وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وتهذيب أخلاقك ، وكسر النفس الأمّارة بالسوء ، فطوبى لك ثم طوبى لك ، ولقد صدق من قال شعرا:
سهر العيون لغير وجهك ضائع .... وبكاؤهن لغير فقدك باطل
أيهـا الولــد:
عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
عن سهل بن محمد رضي الله عنهما قال: جاء جبريل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ماشئت ، فإنك مجزي به ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل ، وعزه استغناؤه عن الناس)[10].
أيهـا الولــد:
أي شيء حاصل لك من تحصيل علم الكلام والخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف: غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال.
إني رأيت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: (من ساعة ما يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأل الله بعظمته منه أربعين سؤالا ، أوّله يقول:" عبدي.. طهّرت منظر الخلق سنين وما طهّرت منظري ساعة" ، وكل يوم ينظر في قلبك يقول الله تعالى:" ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري"!!! أما أنت أصمّ لا تسمع؟!!)
أيهـا الولــد:
العلم بلا عمل جنون ، والعمل بغير علم لا يكون.
واعلم أن علما لا يبعدك اليوم عن المعاصي ، ولا يحملك على الطاعة لن يبعدك غدا عن نار جهنم ، وإذا لم تعمل اليوم ، ولم تدارك الأيام الماضية تقول غدا يوم القيامة: {فارجعنا نعمل صالحا} ، فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء. قال تعالى:{ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون}.
أيهـا الولــد:
اجعل الهمة في الروح ، والهزيمة في النفس ، والموت في البدن ، لأن منزلك القبر ، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم ، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (هذه الأجساد قفص الطيور ، وإصطبل الدواب) .. فتفكّر في نفسك من أيهما أنت؟
إن كنت من الطيور العلوية ، فحين تسمع طنين طبل {إرجعي إلى ربك} تطير صاعدا إلى أن تقعد في أعالي بروح الجنان ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)[11].
والعياذ بالله إن كنت من الدواب كما قال تعالى {أولئك كالأنعام بل هم أضل} فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار.
وروي أن الحسن البصري رحمه الله تعالى أعطي شربة ماء بارد ، فلما اخذ القدح غشي عليه وسقط من يده ، فلما أفاق قيل له: مالك يا أبا سعيد؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة:{أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله}.
أيهـا الولــد:
لو كان العلم المجرّد كافيا لك ، ولا تحتاج إلى عمل سواه ، لكان نداء الله تعالى: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟)[12].
وروي أن جماعة من الصحابة رضي الله عليهم أجمعين ذكروا عبد الله بن عمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم الرجل هو لو كان يصلي بالليل)[13].
وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه: (يا فلان.. لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبه فقيرا يوم القيامة)[14].
أيهـا الولــد:
{ومن الليل فتهجّد به} أمر؛ {وبالأسحار هم يستغفرون} شكر؛ {والمستغفرين بالأسحار} ذكر.
قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك ، وصوت الذي يقرأ القرآن ، وصوت المستغفرين بالأسحار)[15].
قال سفيان الثوري رحمه الله: (إن لله تعالى ريحا تهب بالأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار).
وقال أيضا: (إذا كان أول الليل ينادي مناد من تحت العرش: ألا ليقم العابدون ، فيقومون ويصلون ما شاء الله؛ ثم ينادي مناد في شطر الله: ألا ليقم القانتون ، فيقومون ويصلون إلى السحر؛ فإذا كان السحر ينادي مناد: ألا ليقم المستغفرون ، فيقومون ويستغفرون؛ فإذا طلع الفجر ينادي مناد: ألا ليقم الغافلون ، فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم).
أيهـا الولــد:
روي في لعض وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: (يا بني.. لا يكوننّ الديك أكيس منك ، ينادي بالأسحار وأنت نائم).
ولقد أحسن من قال شعرا:
لقد هتفت في جنح الليل حمامة .... على فنن وهنا وإني لنائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا .... لما سبقتني بالبكاء الحمائم
وأزعم أني هائم ذو صبابة ..... لربي فلا أبكي وتبكي البهائم؟!
أيهـا الولــد:
خلاصة العلم: أن تعلم أن الطاعة والعبادة ما هي؟
اعلم أن الطاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالقول والفعل ، يعني: كل ما تقول وتفعل ، وتترك قوله وفعله يكون بإقتداء الشرع ، كما لو صمت في يوم العيد وأيام التشريق تكون عاصيا ، أو صليت في ثوب مغصوب ـ وإن كانت صورة عبادة ـ تأثم.
أيهـا الولــد:
ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع؛ إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة ، وينبغي لك ألا تغترّ بشطح الصوفية[16] وطاماتهم ؛ لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة ، لا بالطامات والترهات[17].
واعلم أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة ، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيى قلبك بأنوار المعرفة.
واعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول ، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإلا فعلمها من المستحيلات؛ لأنها ذوقية ، وكل ما يكون ذوقيا ، لا يستقيم وصفه بالقول ، كحلاوة الحلو ومرارة المر ، لا تعرف إلا بالذوق ، كما حكي أن عنّينا[18] كتب إلى صاحب له: أن عرّفني لذة المجامعة كيف تكون؟.
فكتب له في جوابه: يا فلان.. إني كنت حسبتك عنّينا فقط ، الآن عرفت أنك عنّين وأحمق؛ لأن هذه اللذة ذوقية ، إن تصل إليها ، وإلا لا يستقيم وصفها بالقول والكتابة.
أيهـا الولــد:
بعض مسائلك من هذا القبيل ، وأما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في "إحياء العلوم" وغيره ، ونذكر ههنا نبذا منه ونشير إليه فنقول: قد وجب على السالك أربعة أمور:
أول الأمر: اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.
والثاني: توبة نصوح لا يرجع بعده إلى الذلة.
والثالث: استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حق.
والرابع: تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى.
ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة.
حكي أن الشبلي رحمه الله خدم أربعمائة أستاذ ، وقال قرأت أربعة آلاف حديث ، ثم اخترت منها حديثا واحدا ، وعملت به ، وخليت ما سواه؛ لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه ، وكان علم الأولين ، والآخرين كله مندرجا فيه فاكتفيت به ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه: (اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنار بقدر صبرك عليها)[19].
أيهـا الولــد:
إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير.
وتأمل في حكاية أخرى ، وهي: أن حاتم الأصمّ كان من أصحاب شقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما ، فسأله يوما قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصّلت؟
قال: حصّلت ثماني فوائد من العلم ، وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها.
فقال شفيق: ما هي؟
قال حاتم:
الفائدة الأولى: إني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه ، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر ، ثم يرجع كله ، ويتركه فريدا وحيدا ، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد.
فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ، ويؤنسه فيه ، فما وجدته غير الأعمال الصالحة ، فأخذتها محبوبة لي؛ لتكون لي سراجا في قبري ، وتؤنسني فيه ، ولا تتركني فريدا.
الفائدة الثانية: أني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم ، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم ، فتأملت قوله تعالى:{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى}. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمّرت بمجاهدتها ، وما متعتها بهواها ، حتى ارتاضت بطاعة الله تعالى وانقادت.
الفائدة الثالثة: أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جميع حطام الدنيا ، ثم يمسكه قابضا يده عليه فتأملت في قوله تعلى:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله تعالى.
الفائدة الرابعة: أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فأعتز بهم.
وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد ، فافتخروا بها.
وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم.
واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه ، وتبذيره ، فتأملت في قوله تعالى:{إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} ، فاخترت التقوى ، واعتقدت أن القرآن حق صادق ، وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.
الفائدة الخامسة: إني رأيت الناس يذم بعضهم بعضا ، ويغتاب بعضهم بعضا ، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم ، فتأملت في قوله تعالى:{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل ، فما حسدت أحدا ورضيت بقسمة الله تعالى.
الفائدة السادسة: أني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضا لغرض وسبب ، فتأملت في قوله تعالى:{إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان.
الفائدة السابعة: أني رأيت كل أحد يسعى بجد ، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش ، بحيث يقع به في سبهة وحرام وبذل نفسه وينقص قدره ، فتأملت في قوله تعالى:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه ، فاشتغلت بعبادته ، وقطعت طمعي عمّن سواه.
الفائدة الثامنة: أني رأيت كل واحد معتمدا على شيء مخلوق ، بعضهم على الدينار والدرهم ، وبعضهم على المال والملك ، وبعضهم على الحرفة والصناعة ، وبعضهم على مخلوق
مثله ، فتأملت في قوله تعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا} فتوكلت على الله تعالى فهو حسبي ونعم الوكيل.
فقال شفيق: وفقك الله تعالى إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثماني ، فمن عمل بها كان عاملا بهذه الكتب الأربعة.
أيهـا الولــد:
قد علمت من هاتين الحكايتين أنك لا تحتاج إلى تكثير العلم ، والآن أبين لك ما يجب على سالك سبيل الحق:
فاعلم أنه ينبغي للسالك شيخ مرشد مرب ، ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته ، ويجعل مكانها خلقا حسنا.
ومعنى التربية يشبه الفلاح الي يقلع الشوك. ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع لحيسن نباته. ويكمل ريعه ، ولا بد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى لأن الله أرسل للعباد رسولا للإرشاد إلى سبيله فإذا ارتحل صلى الله عليه وسلم فقد خلف الخلفاء في مكانه ، حتى يرشدوا إلى الله تعالى.
وشرط االشيخ الذي يصلح أن يكون نائبا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أن يكون عالما إلا أن كل عالم لا يصلح للخلافة.
وإني أبيّن لك بعض علاماته على سبيل الإجمال؛ حتى لا يدّعي كل أحد أنه مرشد فنقول: من يعرض عن حب الدنيا وحب الجاه ، وكان قد تابع شيخا بصيرا تتسلسل متابعته إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وكان محسنا رياضة نفسه من قلة الأكل والقول والنوم وكثرة الصلوات والصدقة والصوم ، وكان بمتابعة الشيخ البصير جاعلا محاسن الأخلاق له سيرة: كالصبر والصلاة والشكر والتوكل واليقين والسخاء والقناعة وطمأنينة النفس والحلم والتواضع والعلم والصدق والحياء والوفاء والوقار والسكون والتأني وأمثالها ، فهو إذا نور من أنوار النبي صلى الله عليه وسلم يصلح للإقتداء به ، ولكن وجود مثله نادر أعز من الكبريت الأحمر.
ومن ساعدته السعادة فوجد شيخا كما ذكرنا ، وقبله الشيخ ، ينبغي أن يحترمه ظاهرا وباطنا:
أما احشوكولاطة الظاهر فهو أن لا يجادله ، ولا يشتغل بالاحتجاج معه في كل مسألة وإن علم خطأه ، ولا يلقي بين يديه سجّادته إلا وقت أداء الصلاة ، فإذا فرغ من الصلاة يرفعها ، ولا يكثر نوافل الصلاة بحضرته ، ويعمل ما يأمره الشيخ من العمل بقدر وسعه وطاقته
وأما احشوكولاطة الباطن: فهو أنّ كل ما يسمع ويقبل منه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا فعلا ولا قولا؛ لئلا يتّسم بالنفاق ، وإن لم يستطع يترك صحبته إلى أن يوافق ياطنه ظاهره.
ويحترز عن مجالسة صاحب السوء؛ ليقصر ولاية شياطين الإنس والجن من صحن قلبه ، فيصفي عن لوث الشيطنة ، وعلى كل حال يختار الفقر على الغنى.
ثم اعلم أن التصوف له خصلتان: الاستقامة ، والسكون عن الخلق ، فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو "صوفي".
والاستقامة أن يفدي حظ نفسه لنفسه.
وحسن الخلق مع الناس: ألا تحمل الناس على مراد نفسك ، بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع.
- ثم إنك سألتني عن العبودية وهي ثلاثة أشياء:
أحدها: محافظة أمر الشرع.
وثانيها: الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى.
وثالثها: ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى.
- وسألتني عن التوكل؟
وهو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد ، يعني تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه عنك ، وما لم يكتب لك لن يصل إليك ، وإن ساعدك جميع العالم.
- وسألتني عن الإخلاص؟
وهو أن تكون أعمالك كلها لله تعالى ، ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس ، ولا تبالي بمذمتهم.
واعلم أن الرياء يتولد من تعظيم الخلق.
وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة ، وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة لتخلص من مراياتهم. ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء.
أيهـا الولــد:
والباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي ، فاطلبه ثمّة: وكتابة بعضها حرام ، اعمل أنت بما تعلم ، لينكشف لك ما لم تعلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم)[20].
أيهـا الولــد:
بعد اليوم لا تسألني ما أشكل عليك إلا بلسان الجنان ، قال تعالى:{ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم}
واقبل نصيحة الخضر عليه السلام حين قال:{فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}
ولا تستعجل حتى تبلغ أوانه يكشف لك وتره:{سأوريكم آياتي فلا تستعجلون}.
فلا تسألني قبل الوقت وتيقن أنك لا تصل إلا بالسير لقوله تعالى:{أولم يسيروا في الأرض فينظروا}.
أيهـا الولــد:
بالله إن تسر تر العجائب في كل منزل ، وابذل روحك ، فإن رأس هذا الأمر بذل الروح ، كما قال ذو النون المصري رحمه الله تعالى لأحد من تلامذته: (إن قدرت على بذل الروح فتعال ، وإلا فلا تسشتغل بالترهات الصوفية).
أيهـا الولــد:
إني أنصحك بثمانية أشياء ، اقبلها مني لئلا يكون علمك خصمك يوم القيامة ، تعمل منها أربعة ، وتدع منها أربعة:
أما اللواتي تدع:
فأحدها: ألا تناظر أحدا في مسألة ما استطعت لأن فيها آفات كثيرة ، فإثمها أكبر من نفعها ، إذ هي منبع كل خلق ذميم كالرياء والحسد والكبر والحقد والعداوة والمباهاة وغيرها.
نعم ، لو وقع مسألة بينك وبين شخص أو أقوام ، وكانت إرادتك فيها أن تظهر الحق ولا يضيع ، جاز البحث ، لكن لتلك الإرادة علامتان:
إحداهما: ألا تفرّق بين أن ينكشف الحق على لسانك أو على لسان غيرك.
والثانية: أن يكون البحث في الخلاء أحبّ إليك من أن يكون في الملأ.
واسمع أني أذكر ههنا فائدة ، واعلم أن السؤال عن المشكلات عرض مرض القلب إلى الطبيب ، والجواب له سعي لإصلاح مرضه.
واعلم أن الجاهليين: المرضى قلوبهم ، والعلماء: الأطباء.
والعالم الناقص لا يحسن المعالجة ، والعالم الكامل لا يعالج كل مريض ، بل يعالج من يرجو فيه قبول المعالجة والصلاح ، فإذا كانت العلة مزمنة أو عقيما لا تقبل العلاج ، فحذاقة الطبيب فيه أن يقول: هذا لا يقبل العلاج ، فلا تشغل فيه بمداواته لأن فيه تضييع العمر.
ثم اعلم أن مرض الجهل على أربعة أنواع : أحدها يقبل العلاج ، والباقي لا يقبل.
- أما الذي لا يقبل:
فأحدهما: من كان سؤاله واعتراضه عن حسد وبغض ، فكلما تجيبه بأحسن الجواب وأفصحه ، فلا يزيد له ذلك إلا بغضا عداوة وحسدا ، فالطريق ألا تشتغل بجوابه ، فقد قيل:
كل العداوة قد ترجى أزالتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد
فينبغي أن تعرض عنه ، وتتركه مع مرضه؛ قال الله تعالى:{فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}.
والحسود بكل ما يقول ويفعل يوقد النار في زرع علمه: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)[21].
والثاني: أن تكون علته من الحماقة ، وهو أيضا لا يقبل العلاج كما قال عيسى عليه السلام: إني ما عجزت عن إحياء الموتى ، وقد عجزت عن معالجة الأحمق.
وذلك رجل يشتغل بطلب العلم زمنا قليلا ويتعلم شيئا قليلا من علوم العقل والشرع ، فيسأل ، ويعترض من حماقته على العالم الكبير ، الذي أمضى عمره في العلوم: العقلي والشرعي ، وهذا الأحمق لا يعلم ، ويظن أن ما أشكل عليه هو أيضا مشكل للعالم الكبير ، فإذا لم يعلم هذا القدر يكون سؤاله من الحماقة ، فينبغي ألا يشتغل بجوابه.
والثالث: أن يكون مسترشدا ، وكل ما لا يفهم من كلام الأكابر يحمل على قصور فهمه ، وكان سؤاله للاستفادة ، لكن لكونه بليدا لا يدرك الحقائق ، فلا ينبغي الاشتغال بجوابه أيضا ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقوله)[22].
وأما المرض الذي يقبل العلاج ، فهو أن يكون مسترشدا عاقلا فهما لا يكون مغلوب الحسد والغضب وحب الشهوة والجاه والمال. ويكون طالب طريق المستقيم ، ولم يكن سؤاله واعتراضه عن حسد ، وتعنّت وامتحان ، وهذا يقبل العلاج ، فيجوز أن تشتغل بجواب سؤاله بل يجب عليك إجابته.
والثاني مما تدع: وهو أن تحذر وتحترز من أن تكون واعظا ومذكرا؛ لأن آفته كثيرة إلا أن تعمل بما تقول أولا ، ثم تعظ به الناس ، فتفكر فيما قيل لعيسى عليه السلام: (يا ابن مريم عظ نفسك ، فإن اتعظت فعظ الناس ، وإلا فاستح من ربك).
وإن ابتليت بهذا العمل فاحترز عن خصلتين:
الأولى: عن التكلف في الكلام بالعبارات والإشارات والطامات والأبيات والأشعار؛ لأن الله تعالى يبغض المتكلفين ، والمتكلف المتجاوز عن الحد ، يدل على خراب الباطن وغفلة القلب.
ومعنى التذكير: أن يذكر العبد نار الآخرة ، وتقصير نفسه في خدمة الخالق ويتفكر في عمره الماضي الذي أفناه فيما لا يعنيه ويتفكر فيما بين يديه من العقبات من عدم سلامة الإيمان في الخاتمة ، وكيفية حاله في قبض ملك الموت ، وهل يقدر على جواب منكر ونكير؟
ويهتم بحاله في القيامة ومواقفها ، وهل يعبلا عن الصراط سالما أم يقع في الهاوية؟
ويستمر ذكر هذه الأشياء في قلبه ، فيزعجه عن قراره ، فغليان هذه النيران ، وتوجه هذه المصائب يسمّى تذكيرا ، وإعلام الخلق واطلاعهم على هذه الأشياء ، وتنبيههم على تقصيرهم وتفريطهم ، وتبصيرهم بعيوب أنفسهم لتمسّ حرارة هذه النيران أهل المجلس ، وتجزعهم تلك المصائب ليتداركوا العمر الماضي بقدر الطاقة ، ويتحسّروا على الأيام الخالية في غير طاعة لله تعالى.
هذه الجملة على هذا الطريق تسمى وعظا ، كما لو رأيت أن السيل قد هجم على دار أحد ، وكان هو وأهله فيها فتقول: الحذر الحذر فروا من السيل!! وهل يشتهي قلبك في هذه الحالة أن تخبر صاحب الدار خبرك بتكلف العبارات ، والنكت والإشارات؟ فلا يشتهي البتة؛ فكذلك حال الواعظ فينبغي أن يجتنبها.
الخصلة الثانية: ألا تكون همّتك في وعظك أن ينفر الخلق في مجلسك ويظهروا الوجد ، ويشقوا الثياب ، ليقال: نعم المجلس هذا؛ لأن كله ميل للدنيا والرياء ، وهو يتولد من الغفلة ، بل ينبغي أن يكون عزمك وهمّتك أن تدعو الناس من الدنيا إلى الآخرة ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الحرص إلى الزهد ، ومن البخل إلى السخاء ، ومن الغرور إلى التقوى ، وتحبب إليهم الآخرة ، وتبغّض إليهم الدنيا ، وتعلمهم علم العبادة والزهد؛ لأن الغالب على طباعهم الزيغ عن نهج الشرع ، والسعي فيما لا يرضى الله تعالى به ، والاشتغال بالأخلاق الرّدية ، فألق في قلوبهم الرعب ، وروّعهم ، وحذرهم عما يستقبلون من المخاوف؛ لعل صفات باطنهم تتغير ، ومعاملة ظاهرهم تتبدل ، ويظهروا الحرص والرغبة في الطاعة والرجوع عن المعصية ، وهذا طريق الوعظ والنصيحة ، وكل وعظ لا يكون هكذا فهو وبال على من قال ويسمع ، بل قيل: إنه غول وشيطان ، يذهب بالخلق عن الطريق ويهلكهم ، فيجب عليهم أن يفروا منه؛ لأن ما يفسد هذا القائل من دينهم ، لا يستطيع بمثله الشيطان ، ومن كان له يد وقدرة يجب عليه أن ينزله عن منابر المسلمين ويمنعه عما باشر ، فإنه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والثالث مما تدع: أنه لا تخالط الأمراء والسلاطين ولا ترهم ، لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة ، ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم ، لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم ، ومن دعا لطول بقائهم فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه.
والرابع مما تدع: ألا تقبل شيئا من عطاء الأمراء وهداياهم وإن علمت أنها من الحلال ، لأن الطمع منهم يفسد الدين ، لأنه يتولد من المداهنة ، ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم ، وهذا كله فساد في الدين ، وأقلّ مضرّته أنك إذا قبلت أخياهم ، وانتفعت من دنياهم أحببتهم ، ومن أحبّ أحدا يحب طول عمره ، وبقاءه بالضرورة ، وفي محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالى ، وإرادة خراب العالم ، فأي شيء يكون أضر من هذا على الدين والعاقبة.
وإياك وإياك أن تخدع باستهواء الشياطين أو قول بعض الناس لك: بأن الأفضل والأولى أن تأخذ منهم الدينار والدهم ، وتفرّقها بين الفقراء والمساكين؛ فإنهم ينفقون على الفسق والمعصية ، وإنفاقك على ضعفاء الناس خير من إنفاقهم؛ فإن اللعين قد قطع أعناق كثير من الناس بهذه الوسوسة وآفته كثيرة ، ذكرناها في إحياء العلوم فاطلبه منها.
وأما الأربعة التي ينبغي لك أن تفعلها:
الأول: أن تجعل معاملتك مع الله تعالى ، بحيث لو عامل بها عبدك معك ترضى بها منه ، ولا يضيق خاطرك عليه ولا تغضب ، والذي لا ترضى به لنفسك من عبدك المجازيّ فلا ترضى أيضا لله تعالى وهو سيدك الحقيقي.
والثاني: كلما عملت بالناس اجعله كما ترضى لنفسك منهم؛ لأنه لا يكمل إيمان عبد حتى يحبّ لسائر الناس ما يحبّ لنفسه.
والثالث: إذا قرأت العلم أو طالعته ، ينبغي أن يكون علمك علما يصلح قلبك ويزكي نفسك ، كما لو علمت أن عمرك ما يبقى غير أسبوع ، فبالضرورة لا تشتغل فيها بعلم الفقه والخلاف والأصول والكلام وأمثالها؛ لأنك تعلم أن هذه العلوم لا تغنيك ، بل تشتغل بمراقبة القلب ، ومعرفة صفات النفس ، والإعراض عن علائق الدنيا ، وتزكي نفسك عن الأخلاق الذميمة وتشتغل بمحبة الله تعالى وعبادته ، والاتصاف بالأوصاف الحسنة ، ولا يمر على عبد يوم وليلة إلا ويمكن أن يكون موته فيه.
أيهـا الولــد:
اسمع مني كلاما آخر ، وتفكر فيه حتى تجد فيه خلاصا: لو أنّك أخبرت أن السلطان بعد أسبوع يجيئك زائرا. أعلم أنك في تلك المدة لا تشتغل إلا بإصلاح ما علمت أن نظر السلطان سيقع عليه من الثياب والبدن ، والدّار والفرش وغيرها.
والآن تفكر إلى ما أشرت به فإنك فهم ، والكلام الفرد يكفي الكيّس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم)[23].
وإن أردت علم أحوال القلب فانظر إلى الإحياء وغيره من مصنفاتي وهذا العلم فرض عين ، وغيره فرض كفاية إلا بمقدار ما يؤدي به إلى فرائض الله تعالى ، وهو يوفقك حتى تحصّله.
والرابع: ألا تجمع من الدنيا أكثر من كفاية سنة ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدّ ذلك لبعض حجراته ، وقال: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا)[24] ، ولم يكن يعدّ بعد ذلك لكل حجراته بل كان يعدّه لمن علم أن في قلبها ضعفا ، وأما من كانت صاحبة يقين فما كان يعدّ لها أكثر من قوت يوم ونصف.
أيهـا الولــد:
إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك ، فينبغي لك أن تعمل بها ولا تنساني فيه أن تذكرني في صالح دعائك.
وأما الدعاء الذي سألت مني فاطلبه من دعوات الصحاح ، واقرأ هذا الدعاء في أوقاتك ، خصوصا في أعقاب صلواتك:
اللهم إني أسألك من النعمة تمامها ، ومن العصمة دوامها ، ومن الرحمة شمولها ، ومن العافية حصولها ، ومن العيش أرغده ، ومن العمر أسعده ومن الإحسان أتمه ، ومن الإنعام أعمّه ، ومن الفضل أعذبه ، ومن اللطف أقربه.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا ، اللهم اختم بالسعادة آجالنا ، وحقق بالزيادة آمالنا ، واقرن بالعافية غدوّنا وآصالنا ، واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا ، واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ، ومنّ علينا بإصلاح عيوبنا ، واجعل التقوى زادنا ، وفي دينك اجتهادنا ، وعليك توكلنا واعتمادنا.
اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة ، وأعذنا في الدنيا من موجبات الندامة يوم القيامة ، وخفف عنا ثقل الأوزار ، وارزقنا عيشة الأبرار ، واكفنا واصرف عنا شرّ الأشرار ، واتق رقابنا ، ورقاب آبائنا ، وأمّهاتنا ومشايخنا من النار ، برحمتك يا عزيز يا غفار ، يا كريم يا ستّار ، يا حليم يا جبّار يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا رحيم ، يا رحيم ، يا أرحم الراحمين ويا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين..
والحمد لله رب العالمين.
عدل سابقا من قبل مرتقب الظل في السبت سبتمبر 03 2011, 23:13 عدل 1 مرات (السبب : صحح خطأ في الآية الكريمة وجزاكم منا الله خير الجزاء)