[img][/img]بعد عامين من عام النكبة 1948م ولد الأديب الفلسطيني زكى العيلة، ومنذ ذلك التاريخ رضع كلمة أساسية اسمها المقاومة، وأصبحت الحياة عنده تساوى هذه الكلمة، كل فعل حياتي لا يتضمن فعل مقاومة غير محسوب من أيامه ولياليه، لذلك نجد للمقاومة وتجلياتها مكانا مركزياً في أدبه إبداعا ونقدا.
إنه مهموم بالإنسان الفلسطيني وقضاياه الأساسية، ومهموم بالأدب الفلسطيني وتطوره إبداعيا، وهو كمعظم الفلسطينيين لا يكتفي بسجن نفسه بين جدران التاريخ والتباكي على الحاضر الأليم، إنه يقاوم طوال الوقت، ويستفيد من كل منجز حضاري ليواصل المقاومة والاتصال بالعالم ليسمعه صوت مواطنيه، ورغم الحصار المضروب على غزة، والمعابر المغلقة معظم الوقت، أفادتني التكنولوجيا الحديثة (الهاتف النقال وشبكة الإنترنت) في التواصل مع المبدع زكي العيلة الذي التقيته مرة منذ حوالي عام بالإسكندرية فتصادقنا على الفور، وكان هذا الحوار ثمرة من ثمرات ذلك التواصل الفعال بيننا.
*ماهي أهم المراحل التي مرت بها مسيرة الأدب الفلسطيني منذ ما قبل عام 1948م وحتى الآن، وما الملامح العامة المميزة لكل مرحلة وأهم رموزها؟.
- المتأمل لمسيرة الأدب الفلسطينـي قبل عام النكبـة والتهجير (1948) يلاحِظ الدور الرئيسي الفاعل للشعر -ممثَّلاً بإبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، وعبد الرحيم محمود، ومحيي الدين الحاج عيسى الصفدي- في رصد هموم الناس وتطلعاتهم، وتبصيرهم بالمؤامرة التي تستهدف كيانهم، في الوقت الذي خفت فيه حضور القصة والرواية.
بعد إقامة الكيان الصهيوني على الجزء الأكبر من فلسطين بعد حرب 1948م، تم اقتلاع غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه وبيته، وقد انعكس هذا الواقع المأساوي -بكل ما فيه من قهر وبؤس ولجوء ومَنافٍ- على مسيرة التجربة الأدبية الفلسطينية التي اصطبغت بالحنين الدامع إلى الأرض المغتصبة، والبيت السليب، بحيث شكَّل ذلك الحنين الرافعة الأساسية لأدب تلك المرحلة، حيث حفلت القصيدة والقصة بالمضامين التي تتحدث عن فقد الوطـن، وألم التشـرد، والتوق إلى الخلاص وتجاوز واقع الهزيمة والإحباط هذا ما نلحظه في شعر هارون هاشم رشيد ويوسف الخطيب وفدوى طوقان وحسن البحيري وعبد الكريم الكرمي، إضافة إلى روايات: ناصر الدين النشاشيبي، وعونـي مصطفى، وسمير قطب، ويوسف الخطيب، ورجب الثلاثيني، ونواف أبو الهيجا، وتتميز في هذا المجال رواية (صراخ في ليل طويل) لجبرا إبراهيم جبرا التي تشكل -من حيث مستوى الشكل والبناء الفني الروائي- نصوصا سردية متقدمة تتجاوز الأعمال الروائية الأخرى.
وتعتبر هزيمة يونيو 1967 نقطة تحول في داخل الوجدان العربي الفلسطيني الذي أثقلته الأسئلة حول ماهية ذلك الحدث المفجع، وقد انعكس ذلك كله -خاصة بعد بروز ظاهرة المقاومة- على الإبداع الفلسطيني في الوطن المحتل وفي الشتات عبر الاحتفاء بالعمل الفدائي الرافض للهزيمة والانكسار.
الداخل والخارج
قصائد فدوى طوقان ألهبت المقاومة
* هل يمكن التمييز بين الأدب الفلسطيني في الداخل والخارج؟ والأدب الفلسطيني في الداخل نفسه هل هو أدب واحد أم تيارات مختلفة؟.
- القول بأن هناك أدبا فلسطينيا في الداخل وآخر في الخارج لا يعدو عن كونه تقسيمات فنية ليس أكثر؛ فالهم الذي يجمع القلم العربي الفلسطيني واحد، والرؤى واحدة، ربما يكون أدب الداخل أقرب إلى واقع الكف التي تجابه سكين الاحتلال، ومعايشة اللحظة الفلسطينية، والامتزاج بها بحكم الواقع والظرف التاريخي، ذلك الظرف الذي منح في الوقت ذاته أدب الخارج ميزة الحركة والانفتاح على التجارب الأدبية الإنسانية، تلك التجارب التي حاول الاحتلال جاهدًا إغلاق نوافذها أمام أدب الداخل عبر قوانينه ومطارداته الجائرة التي استهدفت الكلمة المقاومة.
الأدب الفلسطيني في الداخل مثله مثل آداب الأمم الأخرى يموج بتيارات ومظاهر تجنح إلى التجريب، وإن كانت الكلمة المقاومة لا تزال تحتفظ ببعض بريقها.
الأدب فعل مقاوم
* أدب المقاومة التحريضي، سمة أساسية للأدب الفلسطيني، فهل انتهت هذه السمة بقيام السلطة الفلسطينية؟.
- الإبداع الحقيقي لا يتجزأ ولا تتبدل هويته سواء كان تحت القصف أو خارجه، وهنا أؤكد أن كثيرًا من الإبداعات الفكرية والثقافية التي تجاوزت مرحلتها الآنية التي كتبت فيها دون أن تقع أسيرة الزعيق هي تلك التي كتبت في مجابهة طاعون القهر الاحتلالي.
لقد أسست جبهتنا الأدبية زمن الاحتلال بدمها ولحمها بنية راسخة محملة بالوهج الإنساني، حيث ظهر بدءًا من تلك الفترة الكثير من الأسماء القصصية والشعرية الواعدة، أسماء لم تجد أمامها غير الأسيجة والمحظورات وحيطان التعتيم، كان يجب على تلك الأقلام أن تحمل أوجاع واقعها ومخاضاته عبر الالتصاق بالواقع اليومي الرافض للانكسار.
بدءًا من مشروع أوسلو، لم يتغير شيء على الأرض، ما زال الاحتلال قائمًا وعندما كنت أردد ذلك في ندوة ربيع الأدب الفلسطيني في باريس عام 1997 كنت أواجَه بالدهشة والاستغراب حيث اعتقد البعضأن الاحتلال قد زال وأن أدب المقاومة لم يعد مناسبًا.
الاحتلال الذي عمد إلى إبادة شعبنا وتشريده بحجة هاجسه الأمني، ما زال يحاصر جهات الوطن مستبيحًا في كل لحظة بواباته وساحاته، ومنافذه، متربصًا بأحلامنا؛ وهو ما يؤكد خطأ الرأي الذي اعتقد أن لا مبرر لأدب المقاومة.
إن ثقافة المقاومة لا تنتهي، فدورها مستمر في إذكاء الروح الإنسانية والوطنية لشعبنا في مواجهة الغزاة، ومواجهة ذيوله الإفسادية، وأعتقد أن الأديب الحقيقي لن يضل سواء كتب تحت هدير طائرة الأباتشي وقصف الدبابات أو كتب عبر هدير موج البحر ما دام يستضيء براية أولئك الناس البسطاء الذين ما زالوا يحفظون الحلم، مبشرين بالمستقبل رغم التقتيل والتهجير والهدم دون أن تتبدل لغتهم أو تنكسر حروفهم
الرواية والمرأة الفلسطينية
الروائية سحر خليفة
* تناولت في كتاب كامل المرأة في الأدب الفلسطيني، فكيف تناول الأدب الفلسطيني المرأة، وهل تابع الأدب مراحل تطور المرأة الفلسطينية بتطور الزمن وتطور القضية الفلسطينية ذاتها؟.
- السؤال الرئيسي الذي حاولت دراستي البحث عن إجابة له هو: هل تخطت الروايات الصادرة في المرحلة 1987 – 2000 الصور التقليدية ذات القوالب المحددة للمرأة الفلسطينية السلبية، المقهورة، العاجزة عن التغييروالتي غالبًا ما ترد خارج دائرة الفعل؟.
ولاحظت أن معظم النماذج النسوية في الروايات المدروسة قد شغل بمفهوم الحرية الفردية والعلاقة بين الجنسين حيث ترفع تلك النماذج -في روايات سحر خليفة وليانة بدر تحديدا- كثيرًا من الشعارات الرافضة للضوابط التقليدية انطلاقًا من إيمانهن بأن معركتهن موجهة ضد الرجل والمجتمع القامع؛ فالفتاة "رفيف" مثلاً في رواية "عباد الشمس" لسحر خليفة تبدو المسائل مشوشة في ذهنهـا وهي تدين الرجال كافة؛ "فالجنس في نظرها طبقة، والمرأة تعاني من استلاب مضاعف؛ لأنه استلاب قومي ووطني وجنسي... لذا لا بد من ثورة المرأة ضد نظام اجتماعي، اقتصادي، ديني أخلاقي، وأضف إليها ما شئت من مسميات بلا عدد"، غير آخذة بعين الاعتبار القضايا الاجتماعية والسياسية في شموليتها؛ فالتحرر لا يبدأ بالرجل وينتهيبالمرأة، بل يتحقق في تحرر المجتمع الذي يساهم فيها الرجل والمرأة.
في المقابل تُطل علينا في الرواية نفسها شخصية "سعدية" المرأة التي تقرر أن تباطح الحياة بعد أن لم تفلح شهورًا من النواح والبكاء وارتداء الأسود في إطعام أولادها -إثر استشهاد زوجها "زهدي"-، ويتحقق حلم "سعدية" بشراء قطعة أرض تظن أنها ستريحها من الحارة التي جعلت من خروجها للعمل مصدرًا للتقولات، كما ستمكنها من النجاة بأولادها من بطش الاحتلال وغراماته بسبب مشاركتهم في التصدي للجنود، إلا أن بحثها عن خلاص فردي يواجه بالرفض من أولادها المتشبثين بالحارة وأهلها، لتدهمها ضربة لم تحسب حسابها؛ فالأرض التي اشترتها بعرقها، يصادرها اليهود لصالح إحدى المستوطنات، فتضطر "سعدية" إلى العودة لحضنحارتها في نابلس القديمة، تتواصل مع المجموع، يصبح همها مقارعة العدو الذي قتل رجلها وصادر أرضها. فبعد اغتصاب حلمها تصل لقناعة مؤداها: أن كل الأحلام الفردية ستظل عُرضة للانهيار والسلب ما دام الاحتلال الذي هو سبب كل الآفات قائمًا.
مسيرة اتحاد الكتاب
* لك دور فاعل في تأسيس اتحاد الكتاب الفلسطيني، وقصة تأسيس هذا الاتحاد في حد ذاتها فعل مقاومة، أيمكن أن تلقي الضوء على هذه التجربة؟.
مع بداية عام 1977، بدأت تتبلور في الضفة والقطاع حركة أدبية وطنية، تجاوزت شروط الحصار الذي فرضه سيف الرقيب الإسرائيلي الذي كان يتكئ إلى قوانين الطوارئ البريطانية زمن الانتداب والتي تبيح له أن يهشم أركان أي مادة أدبية لمجرد الشبهة.
لقد شكل اللقاء بين الكتاب الذين لم يتجاوز عددهم وقتها الثلاثين ظاهرة امتدت في بقاع الوطن (القدس، نابس، رام الله، غزة) عبر مناقشة الأعمال الأدبية لمعظمهم، وقد ساهم حضور عدد من النقاد في إثراء تلك النقاشات وحماية المواهب الأدبية والفكرية وتطويرها وتكريسها.
وكانت المبادرة الأولى عام 1977، بتشكيل تجمع كتاب البيادر، ولم تعمر هذه التجربة طويلاً نتيجة خلافات داخل هيئة تحرير المجلة "المظلة"، فكانت الخطوة الثانية عام 1978 بتجميع الأدباء تحت مظلة مركز الأبحاث في جامعة "بير زيت" لكن طموح ذلك التجمع لم يتخط سقف المركز.
في العام 1979، بدأت مجموعة من الكتاب بالحوار مع جمعية الملتقى الفكري في القدس التي كان نظامها الأساسي يبيح تشكيل أكثر من دائرة فكرية أو تنموية لكل منها لجنة منتخبة يمثلها مقررها كعضو معتمد لدى الهيئة الإدارية.
وأسفرت اجتماعات الكتّاب أكثر من مرة في قاعة الجمعية عن انتخاب اللجنة الإدارية التأسيسية لدائرة الكتاب في الضفة والقطاع في نوفمبر 1980، وقد تم انتخاب الشاعر علي الخليلي مقررًا للجنة الكتاب، وكنت أنا عضوًا فيها.
رغم ضحالة الموارد، فإن اللجنة الإدارية الأولى تمكنت من تنظيم العديد من الندوات والمحاضرات، إضافة إلى نشر بعض الكتب المحلية وإقامة مهرجانين أدبيين في القدس على مدار أربعة أيام متتالية في كل مرة بتاريخ أغسطس 1980، وأغسطس 1982، حيث شكلا إضافة مهمة أغنت الثقافة الوطنية الفلسطينية، وعبرت عن التحام الأديب الفلسطيني بقضيته وانحيازه لكل ما هو ديمقراطي وحضاري، كل هذه الخطوات قادت إلى إنشاء اتحاد الكتّاب الفلسطينيين بعد ذلك بعامين الذي أصبح يضم الآن حوالي أربعمائة كاتب وكاتبة في فرعيه في رام الله وغزة.
* كيف ترى مستقبل الأدب الفلسطيني في المرحلة القادمة خصوصا مع وجود وسيلة نشر كالإنترنت تكسر حواجز المنع العديدة التي يواجهها هذا الأدب؟.
- الفيصل لا يكمن في التنافس بين الورقي والرقمي فقط وإنما يكمن أساسًا في المصداقية الإنسانية، وبشكل شخصي تعاملت مع المشهد الثقافي الرقمي عبر بناء موقع ثقافي مفتوح أمام متصفحي الشبكة، يضم نتاجاتي كافة، إضافة إلى ما كُتب عنها، خروجًا من حالة الإغلاق وتكميم النوافذ التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، ولعل الإنترنت يشكل مطلبًا بالنسبة للمبدع العربي الفلسطيني في بحثه الإيجابي عن سبل تمكنه من كسر حالات الإغلاق تلك.
تحت مظلة التطبيع
لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة
*في ظل تدافع البعض نحو مظلة التطبيع بعد اتفاقيات أوسلو، هل ما زلتَ متمسكًا برؤيتك للآخر "العدو الإسرائيلي"، أم أن تغيرًا ما قد حدث؟.
-إن فهم (العدو الغاصب) الذي غدا اسمه الآن (الآخر) هو إحدى الركائز الداعمة لهوية الذات، فبقدر حاجتنا إلى نشر الوعي بالذات العربية الواحدة، بقدر ما نحتاج إلى التعرف على الآخر (اليهودي، الإسرائيلي، الصهيوني). الوافد من وراء المحيطات وآخر القارات محمّلاً بمزاعم واهمة عن شعب بلا وطن يعود إلى بلاد بدون شعب، ليصبح الوافد المدعوم بسياسة القوة التي تستهدف الخصائص المرتبطة بهويتنا القومية، وشخصيتنا الثقافية هو القاعدة، فيما تحول العربي الفلسطيني إلى شذوذها. قضية التطبيع بفروعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عامة، والثقافي منها خاصة تتعرض إلى كثير من الخلط تحت دعاوى الحوار أو الجوار أو المثاقفة، تضاف إلى ذلك مقولة نتحصن خلفها جميعًا مفادها أننا أصحاب مخزون حضاري ضارب الأوتاد لا تهزه ريح وافدة أو غازية، مخزون لا تطال قامته طحالب الآخرين متناسين في الوقت ذاته أن الطرف الآخر لا يعنيه من مخزوننا وتراثنا أي نوع من أنواع الثقافة والتثقيف أو التلاقح الحضاري، لكن ما يعنيه في المقام الأول والأخير هو تمرير مشروعه الثقافي "النقيض" بحيث يصبح ذلك المشروع مفصل المرحلة ولبها.
في أطروحتي للدكتوراة (الذات والآخر الإسرائيلي في روايات الأرض المحتلة بعد عام 1967م) تأكدت رؤيتي التي حافظت عليها نحو ذلك الآخر العدواني، الاستعلائي، الإحلالي الذي استهدف ولا يزال يستهدف الإنسان العربي، تتساوى في العدوانية كل أطياف المجتمع الإسرائيلي، يمينه ويساره على حد سواء، قرأت معظم كتابات حملة لافتة اليسار الإسرائيلي عاموس عوز،وأ. ب. يهوشع، وديفيد غروسمان (قُتل ابنه الرقيب أول- يوري- بصاروخ أصاب دبابته في العدوان على الجنوب اللبناني بتاريخ: 12/8 /2006)، وأستطيع أن أؤكد على التلفيق الكامن في ذلك اليسار المتوافق مع الاحتلال الإسرائيلي جملة وتفصيلاً.
فهذا اليسار الذي يسعى دائمًا إلى جرنا نحو مناطقه المعتمة المربكة لا تحركه أوجاع الطرف (العربي) وإنما تحركه توابيت القتلى الإسرائيليين.
اليسار الإسرائيلي وعلى رأسه (عاموس عوز، وأ. ب. يهوشع، وديفيد غروسمان) مرتبط بالأهداف الصهيونية خاصة في القضايا المفصلية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، مثل: قضايا الأمن، قوة الردع الإسرائيلية، والقدس العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل، وإنكار حقوق ملايين اللاجئيـن الفلسطينيين القابعين في المخيمات، وهذا يؤكد أن مفهوم التطبيع الذي يشكل الهاجس الأساسي لتوجهات الطرف الآخر لا يخرج عن معاني التبعية والاستلاب.
إنه مهموم بالإنسان الفلسطيني وقضاياه الأساسية، ومهموم بالأدب الفلسطيني وتطوره إبداعيا، وهو كمعظم الفلسطينيين لا يكتفي بسجن نفسه بين جدران التاريخ والتباكي على الحاضر الأليم، إنه يقاوم طوال الوقت، ويستفيد من كل منجز حضاري ليواصل المقاومة والاتصال بالعالم ليسمعه صوت مواطنيه، ورغم الحصار المضروب على غزة، والمعابر المغلقة معظم الوقت، أفادتني التكنولوجيا الحديثة (الهاتف النقال وشبكة الإنترنت) في التواصل مع المبدع زكي العيلة الذي التقيته مرة منذ حوالي عام بالإسكندرية فتصادقنا على الفور، وكان هذا الحوار ثمرة من ثمرات ذلك التواصل الفعال بيننا.
*ماهي أهم المراحل التي مرت بها مسيرة الأدب الفلسطيني منذ ما قبل عام 1948م وحتى الآن، وما الملامح العامة المميزة لكل مرحلة وأهم رموزها؟.
- المتأمل لمسيرة الأدب الفلسطينـي قبل عام النكبـة والتهجير (1948) يلاحِظ الدور الرئيسي الفاعل للشعر -ممثَّلاً بإبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، وعبد الرحيم محمود، ومحيي الدين الحاج عيسى الصفدي- في رصد هموم الناس وتطلعاتهم، وتبصيرهم بالمؤامرة التي تستهدف كيانهم، في الوقت الذي خفت فيه حضور القصة والرواية.
بعد إقامة الكيان الصهيوني على الجزء الأكبر من فلسطين بعد حرب 1948م، تم اقتلاع غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه وبيته، وقد انعكس هذا الواقع المأساوي -بكل ما فيه من قهر وبؤس ولجوء ومَنافٍ- على مسيرة التجربة الأدبية الفلسطينية التي اصطبغت بالحنين الدامع إلى الأرض المغتصبة، والبيت السليب، بحيث شكَّل ذلك الحنين الرافعة الأساسية لأدب تلك المرحلة، حيث حفلت القصيدة والقصة بالمضامين التي تتحدث عن فقد الوطـن، وألم التشـرد، والتوق إلى الخلاص وتجاوز واقع الهزيمة والإحباط هذا ما نلحظه في شعر هارون هاشم رشيد ويوسف الخطيب وفدوى طوقان وحسن البحيري وعبد الكريم الكرمي، إضافة إلى روايات: ناصر الدين النشاشيبي، وعونـي مصطفى، وسمير قطب، ويوسف الخطيب، ورجب الثلاثيني، ونواف أبو الهيجا، وتتميز في هذا المجال رواية (صراخ في ليل طويل) لجبرا إبراهيم جبرا التي تشكل -من حيث مستوى الشكل والبناء الفني الروائي- نصوصا سردية متقدمة تتجاوز الأعمال الروائية الأخرى.
وتعتبر هزيمة يونيو 1967 نقطة تحول في داخل الوجدان العربي الفلسطيني الذي أثقلته الأسئلة حول ماهية ذلك الحدث المفجع، وقد انعكس ذلك كله -خاصة بعد بروز ظاهرة المقاومة- على الإبداع الفلسطيني في الوطن المحتل وفي الشتات عبر الاحتفاء بالعمل الفدائي الرافض للهزيمة والانكسار.
الداخل والخارج
قصائد فدوى طوقان ألهبت المقاومة
* هل يمكن التمييز بين الأدب الفلسطيني في الداخل والخارج؟ والأدب الفلسطيني في الداخل نفسه هل هو أدب واحد أم تيارات مختلفة؟.
- القول بأن هناك أدبا فلسطينيا في الداخل وآخر في الخارج لا يعدو عن كونه تقسيمات فنية ليس أكثر؛ فالهم الذي يجمع القلم العربي الفلسطيني واحد، والرؤى واحدة، ربما يكون أدب الداخل أقرب إلى واقع الكف التي تجابه سكين الاحتلال، ومعايشة اللحظة الفلسطينية، والامتزاج بها بحكم الواقع والظرف التاريخي، ذلك الظرف الذي منح في الوقت ذاته أدب الخارج ميزة الحركة والانفتاح على التجارب الأدبية الإنسانية، تلك التجارب التي حاول الاحتلال جاهدًا إغلاق نوافذها أمام أدب الداخل عبر قوانينه ومطارداته الجائرة التي استهدفت الكلمة المقاومة.
الأدب الفلسطيني في الداخل مثله مثل آداب الأمم الأخرى يموج بتيارات ومظاهر تجنح إلى التجريب، وإن كانت الكلمة المقاومة لا تزال تحتفظ ببعض بريقها.
الأدب فعل مقاوم
* أدب المقاومة التحريضي، سمة أساسية للأدب الفلسطيني، فهل انتهت هذه السمة بقيام السلطة الفلسطينية؟.
- الإبداع الحقيقي لا يتجزأ ولا تتبدل هويته سواء كان تحت القصف أو خارجه، وهنا أؤكد أن كثيرًا من الإبداعات الفكرية والثقافية التي تجاوزت مرحلتها الآنية التي كتبت فيها دون أن تقع أسيرة الزعيق هي تلك التي كتبت في مجابهة طاعون القهر الاحتلالي.
لقد أسست جبهتنا الأدبية زمن الاحتلال بدمها ولحمها بنية راسخة محملة بالوهج الإنساني، حيث ظهر بدءًا من تلك الفترة الكثير من الأسماء القصصية والشعرية الواعدة، أسماء لم تجد أمامها غير الأسيجة والمحظورات وحيطان التعتيم، كان يجب على تلك الأقلام أن تحمل أوجاع واقعها ومخاضاته عبر الالتصاق بالواقع اليومي الرافض للانكسار.
بدءًا من مشروع أوسلو، لم يتغير شيء على الأرض، ما زال الاحتلال قائمًا وعندما كنت أردد ذلك في ندوة ربيع الأدب الفلسطيني في باريس عام 1997 كنت أواجَه بالدهشة والاستغراب حيث اعتقد البعضأن الاحتلال قد زال وأن أدب المقاومة لم يعد مناسبًا.
الاحتلال الذي عمد إلى إبادة شعبنا وتشريده بحجة هاجسه الأمني، ما زال يحاصر جهات الوطن مستبيحًا في كل لحظة بواباته وساحاته، ومنافذه، متربصًا بأحلامنا؛ وهو ما يؤكد خطأ الرأي الذي اعتقد أن لا مبرر لأدب المقاومة.
إن ثقافة المقاومة لا تنتهي، فدورها مستمر في إذكاء الروح الإنسانية والوطنية لشعبنا في مواجهة الغزاة، ومواجهة ذيوله الإفسادية، وأعتقد أن الأديب الحقيقي لن يضل سواء كتب تحت هدير طائرة الأباتشي وقصف الدبابات أو كتب عبر هدير موج البحر ما دام يستضيء براية أولئك الناس البسطاء الذين ما زالوا يحفظون الحلم، مبشرين بالمستقبل رغم التقتيل والتهجير والهدم دون أن تتبدل لغتهم أو تنكسر حروفهم
الرواية والمرأة الفلسطينية
الروائية سحر خليفة
* تناولت في كتاب كامل المرأة في الأدب الفلسطيني، فكيف تناول الأدب الفلسطيني المرأة، وهل تابع الأدب مراحل تطور المرأة الفلسطينية بتطور الزمن وتطور القضية الفلسطينية ذاتها؟.
- السؤال الرئيسي الذي حاولت دراستي البحث عن إجابة له هو: هل تخطت الروايات الصادرة في المرحلة 1987 – 2000 الصور التقليدية ذات القوالب المحددة للمرأة الفلسطينية السلبية، المقهورة، العاجزة عن التغييروالتي غالبًا ما ترد خارج دائرة الفعل؟.
ولاحظت أن معظم النماذج النسوية في الروايات المدروسة قد شغل بمفهوم الحرية الفردية والعلاقة بين الجنسين حيث ترفع تلك النماذج -في روايات سحر خليفة وليانة بدر تحديدا- كثيرًا من الشعارات الرافضة للضوابط التقليدية انطلاقًا من إيمانهن بأن معركتهن موجهة ضد الرجل والمجتمع القامع؛ فالفتاة "رفيف" مثلاً في رواية "عباد الشمس" لسحر خليفة تبدو المسائل مشوشة في ذهنهـا وهي تدين الرجال كافة؛ "فالجنس في نظرها طبقة، والمرأة تعاني من استلاب مضاعف؛ لأنه استلاب قومي ووطني وجنسي... لذا لا بد من ثورة المرأة ضد نظام اجتماعي، اقتصادي، ديني أخلاقي، وأضف إليها ما شئت من مسميات بلا عدد"، غير آخذة بعين الاعتبار القضايا الاجتماعية والسياسية في شموليتها؛ فالتحرر لا يبدأ بالرجل وينتهيبالمرأة، بل يتحقق في تحرر المجتمع الذي يساهم فيها الرجل والمرأة.
في المقابل تُطل علينا في الرواية نفسها شخصية "سعدية" المرأة التي تقرر أن تباطح الحياة بعد أن لم تفلح شهورًا من النواح والبكاء وارتداء الأسود في إطعام أولادها -إثر استشهاد زوجها "زهدي"-، ويتحقق حلم "سعدية" بشراء قطعة أرض تظن أنها ستريحها من الحارة التي جعلت من خروجها للعمل مصدرًا للتقولات، كما ستمكنها من النجاة بأولادها من بطش الاحتلال وغراماته بسبب مشاركتهم في التصدي للجنود، إلا أن بحثها عن خلاص فردي يواجه بالرفض من أولادها المتشبثين بالحارة وأهلها، لتدهمها ضربة لم تحسب حسابها؛ فالأرض التي اشترتها بعرقها، يصادرها اليهود لصالح إحدى المستوطنات، فتضطر "سعدية" إلى العودة لحضنحارتها في نابلس القديمة، تتواصل مع المجموع، يصبح همها مقارعة العدو الذي قتل رجلها وصادر أرضها. فبعد اغتصاب حلمها تصل لقناعة مؤداها: أن كل الأحلام الفردية ستظل عُرضة للانهيار والسلب ما دام الاحتلال الذي هو سبب كل الآفات قائمًا.
مسيرة اتحاد الكتاب
* لك دور فاعل في تأسيس اتحاد الكتاب الفلسطيني، وقصة تأسيس هذا الاتحاد في حد ذاتها فعل مقاومة، أيمكن أن تلقي الضوء على هذه التجربة؟.
مع بداية عام 1977، بدأت تتبلور في الضفة والقطاع حركة أدبية وطنية، تجاوزت شروط الحصار الذي فرضه سيف الرقيب الإسرائيلي الذي كان يتكئ إلى قوانين الطوارئ البريطانية زمن الانتداب والتي تبيح له أن يهشم أركان أي مادة أدبية لمجرد الشبهة.
لقد شكل اللقاء بين الكتاب الذين لم يتجاوز عددهم وقتها الثلاثين ظاهرة امتدت في بقاع الوطن (القدس، نابس، رام الله، غزة) عبر مناقشة الأعمال الأدبية لمعظمهم، وقد ساهم حضور عدد من النقاد في إثراء تلك النقاشات وحماية المواهب الأدبية والفكرية وتطويرها وتكريسها.
وكانت المبادرة الأولى عام 1977، بتشكيل تجمع كتاب البيادر، ولم تعمر هذه التجربة طويلاً نتيجة خلافات داخل هيئة تحرير المجلة "المظلة"، فكانت الخطوة الثانية عام 1978 بتجميع الأدباء تحت مظلة مركز الأبحاث في جامعة "بير زيت" لكن طموح ذلك التجمع لم يتخط سقف المركز.
في العام 1979، بدأت مجموعة من الكتاب بالحوار مع جمعية الملتقى الفكري في القدس التي كان نظامها الأساسي يبيح تشكيل أكثر من دائرة فكرية أو تنموية لكل منها لجنة منتخبة يمثلها مقررها كعضو معتمد لدى الهيئة الإدارية.
وأسفرت اجتماعات الكتّاب أكثر من مرة في قاعة الجمعية عن انتخاب اللجنة الإدارية التأسيسية لدائرة الكتاب في الضفة والقطاع في نوفمبر 1980، وقد تم انتخاب الشاعر علي الخليلي مقررًا للجنة الكتاب، وكنت أنا عضوًا فيها.
رغم ضحالة الموارد، فإن اللجنة الإدارية الأولى تمكنت من تنظيم العديد من الندوات والمحاضرات، إضافة إلى نشر بعض الكتب المحلية وإقامة مهرجانين أدبيين في القدس على مدار أربعة أيام متتالية في كل مرة بتاريخ أغسطس 1980، وأغسطس 1982، حيث شكلا إضافة مهمة أغنت الثقافة الوطنية الفلسطينية، وعبرت عن التحام الأديب الفلسطيني بقضيته وانحيازه لكل ما هو ديمقراطي وحضاري، كل هذه الخطوات قادت إلى إنشاء اتحاد الكتّاب الفلسطينيين بعد ذلك بعامين الذي أصبح يضم الآن حوالي أربعمائة كاتب وكاتبة في فرعيه في رام الله وغزة.
* كيف ترى مستقبل الأدب الفلسطيني في المرحلة القادمة خصوصا مع وجود وسيلة نشر كالإنترنت تكسر حواجز المنع العديدة التي يواجهها هذا الأدب؟.
- الفيصل لا يكمن في التنافس بين الورقي والرقمي فقط وإنما يكمن أساسًا في المصداقية الإنسانية، وبشكل شخصي تعاملت مع المشهد الثقافي الرقمي عبر بناء موقع ثقافي مفتوح أمام متصفحي الشبكة، يضم نتاجاتي كافة، إضافة إلى ما كُتب عنها، خروجًا من حالة الإغلاق وتكميم النوافذ التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، ولعل الإنترنت يشكل مطلبًا بالنسبة للمبدع العربي الفلسطيني في بحثه الإيجابي عن سبل تمكنه من كسر حالات الإغلاق تلك.
تحت مظلة التطبيع
لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة
*في ظل تدافع البعض نحو مظلة التطبيع بعد اتفاقيات أوسلو، هل ما زلتَ متمسكًا برؤيتك للآخر "العدو الإسرائيلي"، أم أن تغيرًا ما قد حدث؟.
-إن فهم (العدو الغاصب) الذي غدا اسمه الآن (الآخر) هو إحدى الركائز الداعمة لهوية الذات، فبقدر حاجتنا إلى نشر الوعي بالذات العربية الواحدة، بقدر ما نحتاج إلى التعرف على الآخر (اليهودي، الإسرائيلي، الصهيوني). الوافد من وراء المحيطات وآخر القارات محمّلاً بمزاعم واهمة عن شعب بلا وطن يعود إلى بلاد بدون شعب، ليصبح الوافد المدعوم بسياسة القوة التي تستهدف الخصائص المرتبطة بهويتنا القومية، وشخصيتنا الثقافية هو القاعدة، فيما تحول العربي الفلسطيني إلى شذوذها. قضية التطبيع بفروعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عامة، والثقافي منها خاصة تتعرض إلى كثير من الخلط تحت دعاوى الحوار أو الجوار أو المثاقفة، تضاف إلى ذلك مقولة نتحصن خلفها جميعًا مفادها أننا أصحاب مخزون حضاري ضارب الأوتاد لا تهزه ريح وافدة أو غازية، مخزون لا تطال قامته طحالب الآخرين متناسين في الوقت ذاته أن الطرف الآخر لا يعنيه من مخزوننا وتراثنا أي نوع من أنواع الثقافة والتثقيف أو التلاقح الحضاري، لكن ما يعنيه في المقام الأول والأخير هو تمرير مشروعه الثقافي "النقيض" بحيث يصبح ذلك المشروع مفصل المرحلة ولبها.
في أطروحتي للدكتوراة (الذات والآخر الإسرائيلي في روايات الأرض المحتلة بعد عام 1967م) تأكدت رؤيتي التي حافظت عليها نحو ذلك الآخر العدواني، الاستعلائي، الإحلالي الذي استهدف ولا يزال يستهدف الإنسان العربي، تتساوى في العدوانية كل أطياف المجتمع الإسرائيلي، يمينه ويساره على حد سواء، قرأت معظم كتابات حملة لافتة اليسار الإسرائيلي عاموس عوز،وأ. ب. يهوشع، وديفيد غروسمان (قُتل ابنه الرقيب أول- يوري- بصاروخ أصاب دبابته في العدوان على الجنوب اللبناني بتاريخ: 12/8 /2006)، وأستطيع أن أؤكد على التلفيق الكامن في ذلك اليسار المتوافق مع الاحتلال الإسرائيلي جملة وتفصيلاً.
فهذا اليسار الذي يسعى دائمًا إلى جرنا نحو مناطقه المعتمة المربكة لا تحركه أوجاع الطرف (العربي) وإنما تحركه توابيت القتلى الإسرائيليين.
اليسار الإسرائيلي وعلى رأسه (عاموس عوز، وأ. ب. يهوشع، وديفيد غروسمان) مرتبط بالأهداف الصهيونية خاصة في القضايا المفصلية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، مثل: قضايا الأمن، قوة الردع الإسرائيلية، والقدس العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل، وإنكار حقوق ملايين اللاجئيـن الفلسطينيين القابعين في المخيمات، وهذا يؤكد أن مفهوم التطبيع الذي يشكل الهاجس الأساسي لتوجهات الطرف الآخر لا يخرج عن معاني التبعية والاستلاب.